كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أعقب الوعيد بالوعد جريًا على سنة القرآن كما تقدم في المقدمة العاشرة.
والقنوت: الطاعة، والقنوت للرسول: الدوام على طاعته واجتلاب رضاه لأن في رضاه رضى الله تعالى، قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80].
وقرأ الجمهور: {يقنت} بتحتية في أوله مراعاة لمدلول {مَن} الشرطية كما تقدم في {من يأت منكن} [الأحزاب: 30].
وقرأه يعقوب بفوقية في أوله مراعاة لما صْدَق {مَن} أي إحدى النساء، كما تقدم في قوله تعالى: {من يأت منكن}.
وأسند فعل إيتاء أجرهنّ إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفًا لإيتائهن الأجر لأنه المأمول بهن، وكذلك فعل {وأعتدنا}.
ومعنى {مرتين} توفير الأجر وتضعيفه كما تقدم في قوله تعالى: {ضعفين} [الأحزاب: 30].
وضمير {أجرها} عائد إلى {مَن} باعتبار أنها صادقة على واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وفي إضافة الأجر إلى ضميرها إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر.
ومضاعفة الأجر لهن على الطاعات كرامة لقدرهنّ، وهذه المضاعفة في الحالين من خصائص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لعظم قدرهن، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة فضل الآتي بها. ودرجة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة.
وقرأ الجمهور: {وتعمل} بالتاء الفوقية على اعتبار معنى {من} الموصولة المراد بها إحدى النساء وحسنه أنه معطوف على فعل {يقنت} بعد أن تعلق به الضمير المجرور وهو ضمير نسوة.
وقرأ حمزة والكسائي وخلَف {ويعمل} بالتحتية مراعاة لمدلول {مَن} في أصل الوضع.
وقرأ الجمهور {نؤتها} بنون العظمة.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية على اعتبار ضمير الغائب عائدًا إلى اسم الجلالة من قوله قبله {وكان ذلك على الله يسيرًا} [الأحزاب: 30].
والقول في {أعتدنا لها} كالقول في {فإن الله أعدّ للمحسنات} [الأحزاب: 29].
والتاء في {أعتدنا} بدل عن أحد الدالين من {أعدّ} لقرب مخرجيها وقصد التخفيف.
والعدول عن المضارع إلى فعل الماضي في قوله: {أعتدنا} لإفادة تحقيق وقوعه.
والرزق الكريم: هو رزق الجنة قال تعالى: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا} [البقرة: 25] الآية.
ووصفه بالكريم لأنه أفضل جنسه.
وقد تقدم في قوله تعالى: {إني ألقي إلي كتاب كريم} في سورة النمل (29).
{يا نساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النساء} أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتمامًا يخصُّه.
وأحد: اسم بمعنى واحد مثل: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] وهمزته بدل من الواو.
وأصلهُ: وَحَد بوزن فَعَل، أي متوحِّد، كما قالوا: فَرَد بمعنى منفرد.
قال النابغة يذكر ركوبه راحلته:
كان رحلي وقد زال النهار بنا ** يوم الجليل على مستأنس وَحد

يُريد على ثور وحشي منفرد.
فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا: أَحد، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي، قال تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس.
ونفي المشابهة هُنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} [النساء: 95]، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة {غير أولي الضرر} وجد ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء (95).
فالمعنى: أنتُنَّ أفضل النساء، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة، وسبب ذلك أنهن اتصَلْنَ بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالًا أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شئونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرُهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن، ولأن إقباله عليهن إقبالٌ خاص، ألا ترى إلى قوله: حُبِّب إليكم من دنياكم النساء والطيب، وقال تعالى: {والطيبات للطيبين} [النور: 26]. ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن.
والتقييد بقوله: {إن اتقيتن} ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلْهاب وتحريض على الازدياد من التقوى، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: «إن عبد الله يعني أخاها رجل صالح لو كان يَقوم من الليل» فلما أبلغت حفصة ذلك عبد اللَّه بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام.
وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّقِيات من قبلُ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله.
واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة.
وقد اختُلِف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشعري الوقف في ذلك، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط.
أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ميزانًا نزل من السماء فوُزن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووُزن أبو بكر وعُمر فرجح أبو بكر، ووُزن عمر وعثمان فرجح عُمر، ثم رُفع الميزان.
والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شئون الرجال. وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل.
ومن العلماء مَن جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتازاني في كتاب المقاصد. وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها.
والأحسن أن يكون الوقف على {إن اتقيتن} وقوله: {فلا تخضعن} ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط.
فُرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادُهُنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة، وفيها منافقوها.
وابتدىء من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه، والنساءُ في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولِين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قرُبت هيئته من هيئة التَدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة.
فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظَنّ بعض من يُشافِهُها من الرجال أنها تتحبّب إليه، فربما اجترأت نفسُه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة، بله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين.
والخضوع: حقيقته التذلّل، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل.
والباء في قوله: {بالقول} يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية، أي لا تُخضعن القول، أي تَجعَلْنَه خاضعًا ذليلًا، أي رقيقًا متفكّكا.
وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك: ذهبت بزيد، أنك ذهبتَ مصاحبًا له فأنت أذهبته معك، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو: {ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17]، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة، وأفيدت التعدية بالباء.
ويجوز أن تكون الباء بمعنى في، أي لا يكن منكُن لِين في القول.
والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت، أي ليكن كلامكن جزلًا.
والمرض: حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأَعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك.
وتقدم في قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} في سورة البقرة (10).
وانتصب {يطمَع} في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع.
وحذف متعلِق {فيطمع} تنزهًا وتعظيمًا لشأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة.
وعَطْفُ {وقلن قولًا معروفًا} على {لا تَخْضَعْنَ} بالقول بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار.
والقول: الكلام. والمعروف: هو الذي يألفه الناس بحسب العُرففِ العام، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو يسمعنه قولًا بذيئًا من باب: فليقل خيرًا أو ليصمت. وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل.
{وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ}. هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيرًا لهن، وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة.
وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الموطأ.
وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء. وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف. ووجهها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قَرّ بمعنى: أقام واستقرّ، يقولون: قَرِرت في المكان بكسر الراء من باب عَلم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قَرْن اقْرَرْن فحذفت الراء الأولى للتخفيف من التضعيف وألقيت حركتها على القاف نظير قولهم: أحَسْنَ بمعنى أَحْسَسْنَ في قول أبي زُبيد:
سوى أن الجياد من المطايا ** أحَسْن به فهُن إليه شُوس

وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة، وزعم أن قرِرت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قُرّة العين، والقراءة حجة عليهما.
والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرّة العين وأن المعنى: واقررن عيونًا في بيوتكن، أي لَكُنّ في بيوتكن قُرّة عين فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن.
وقرأ بقية العشرة {وقرن} بكسر القاف. قال المبرد: هو من القرار، أصله: اقرِرن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفًا، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا: ظَلْت ومَسْت.
وقال ابن عطية: يصح أن يكون قِرْن، أي بكسر القاف أمرًا من الوقار، يقال: وَقر فلان يقِر، والأمر منه قِر للواحد، وللنساء قِرن مثل عِدن، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن مع الإِيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن.
وقرأ الجمهور {بيوتكن} بكسر الباء. وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء.
وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت، يقولون: حُجرة عائشة، وبيت حفصة، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1].
وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهُنّ لأن البيوت بناها النبي صلى الله عليه وسلم تباعًا تبعًا لبناء المسجد، ولذلك لما تُوفِّيت الأزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة ولم يُعطِ عوضًا لورثتهن.
وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجن إلا لضرورة، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أَذِنَ لكُنَّ أن تخرجن لحوائجكن» يريد حاجات الإِنسان. ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين.
وقد خرجت عائشة إلى بيت أبيها أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها: «وإنما هو اليومَ مالُ وارث» رواه في الموطأ.
وكُنّ يخرُجْن للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحَضَر، وأبت سودة أن تخرج إلى الحجّ والعمرة بعد ذلك.
وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله: {وقرن في بيوتكن}. ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يُمَرّ عليها بجنازته في المسجد لتدعو له، أي لتصلي عليه. رواه في الموطأ.
وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى: وقْعةَ الجَمَل، فلم يغير عليها ذلك كثير من جِلّة الصحابة منهم طلحة والزبير.
وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل: عَمار بن ياسر، وعلي بن أبي طالب، ولكلَ نظَر في الاجتهاد.
والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها إلى البصرة مصلحة للمسلمين لتسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلّقوا بها وشكَوْا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة ورجَوْا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين، وظنّوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القَرار المأمور به في قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} يكافىء الخروج للحج.
وأخذت بقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة، فكان ذلك منها عن اجتهاد.
وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما.
وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب، كقولنا في تقاتلهم في صِفِّين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتَلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل.